قامت الحكومات بجمع الضرائب و الإتاوات من اجل دعم الجيوش و تسيير أمور الحياة المدنية في البلاد ومع ذلك لم تكن هناك ضوابط ورقابة على عملية الموازنة بصورة توضح مصادر الاموال واستخداماتها.
إن جذور الممارسات المعاصرة للميزانية يمكن أن تعزى إلى التطورات الدستورية في المملكة المتحدة حيث أنشأت ثورة 1689 ما يعرف بالملكية الدستورية والتي تعني سيادة البرلمان على النظام الملكي، و كنتيجة لذلك أصبح من حق الملك، ومن بعده رئيس الوزراء، أن يطلب فرض بعض الضرائب، أو إقرار المصروفات المختلفة، لكن ذلك مرهونا بموافقة البرلمان كشرط أولي .
بالرغم من ذلك جرت عملية التغيير بشكل بطيء، مع وجود فجوة ملحوظة بين المبادئ، والتطبيق. وتم توسيع صلاحيات البرلمان، ليصبح قادراً على الرقابة، والتحكم في الميزانية، حيث كانت الميزانية في البداية تخص الجيش فقط ، ولمنع الملك من تجميع قوة كبيرة كافية للإطاحة البرلمان. على سبيل المثال وكنوع من الرقابة، قام البرلمان بالرقابة على إعتمادات الجيش والسفن الموجدة الميناء، دون التدخل في السفن الموجودة في عرض البحر. وعلاوة على ذلك، لم تكن الميزانيات الكاملة مكتوبة، كما انه لم تتم الرقابة على الميزانية بشكل سنوي، بالإضافة إلى عدم وجود ضوابط على ما تم إنفاقه فعليا لتحقيق هذه الأغراض، وكان مسك السجلات يتم بشكل عشوائي، ولم تكن تقارير المراجعين موجودة في ذلك الوقت.
كان التوسع في عملية المراقبة علي الميزانية على بقية فئات الجيش و المناطق غير العسكرية خلال القرن الثامن عشر بطيئة، وغير متناسقة. لكن نتيجة اكتسب البرلمان خبرة أكثر في تخصيص الأموال، كما بدأت بعض المفاهيم والمصطلحات الحديثة في التطور و الظهور إلي العلن . حيث تم تطور مصطلحات قديمة لتصبح ملائمة لعصرنا الحديث،
و مثال لذلك في البداية، استخدم الرومان مصطلح السلة المنسوجة(fiscus) والتي كانت تسمى )خزانة عامة) لجمع الضرائب. لاحقا استخدم الاسم للدلالة علي الخزانة حيث درج استخدام هذا الاسم كبديل للسلة المنسوجة. مع بداية العصور الوسطى، كان المسئول علي المالية يعرف (fisc)أي المسئول عن خزانة الدولة، و بشكل مشابه من الكلمة اللاتينية انتفاخ (bulga) جائت باللغة الفرنسية القديمة الكلمة (bouge)و التي تعني حقيبة؛ أو (bougette) ، استمر استخدام هذا المصطلح في الوقت ما بين 1400 و 1450 حيث أصبحت الكلمة(bougett) كلمة أساسية في اللغة الانجليزية و هيا تعني حقيبة جلدية، أو حقيبة.
في أوائل القرن الثامن عشر، كانت خطط الإنفاق التي يقدمها وزراء الملك إلى البرلمان تسمي بيانات، أو جداول الحسابات. وتسمي الحقيبة الجلدية التي تنقل فيها خطط الإنفاق بالميزانيةbudget).). بحلول عام 1800 كان هذا اللفظ مقبولا في إنجلترا للدلالة علي الميزانية بدل من الحقيبة نفسها.
في القرن التاسع عشر وضعت معظم السياسات والإجراءات والممارسات الفنية التي مستخدمة في الميزانيات، بداية التغيرات الجذرية كانت في فرنسا حيث علي مدى أكثر من نصف هذا القرن – أي القرن التاسع عشر- استمرت الممارسات المالية الإنجليزية لتشكل خليط من التقاليد حيث أنها كانت تتطور ببطء نحو العالم الحديث، بينما أقدم الفرنسيون علي تغييرات جذرية في الحكومة، والمجتمع في عهد نابليون حيث سعت الميزانية لتحقيق المنطق، والتوازن، والدقة بنائنا علي القوانين التي تبناها نابليون.
كما هو الحال مع الانجليز ،كان هدف نابليون الأول هو ضبط الميزانية العسكرية.و ذالك للحصول علي معلومات أفضل للميزانية و التحكم في النفقات ، و لقد جعل نابليون من المحاسبة سلاح له في إدارة الشؤون المالية و قد أصبح الجنرال الذي يدير هذا المهام المراجع العام الأول. في عام 1803 بدأت فرنسا باستخدام الكلمة الانجليزية للميزانية (budget) للدلالة على إجراءات الميزانية، طورت فرنسا قدراتها على ممارسة الرقابة والتحكم على جميع النفقات، سواء العسكرية وغير العسكرية. وكانت الإنجازات الفرنسية الرائعة، ليس فقط لأنها كانت غير متوقعة ولكن لأنها تمت في فترة قصيرة من الزمن. وعلاوة على ذلك، استمرت هذه الابتكارات بعد نابليون حتى الجمهورية الثانية و الإمبراطورية الثانية.
في عام 1860 قام الفرنسيون بتطوير نظام محاسبي موحد، و الذي تم تطبيقه على جميع الإدارات، وجميع الوحدات داخل هذه الإدارات، في سنة مالية قياسية، ومن الضروري علي الإدارات شرح وتفصيل جميع الاموال التي تم تخصيصها لهم، ،و في نهاية العام يجب على الإدارات تحضير الإجراءات النهائية و قائمة مقارنة بين الاعتمادات المخصصة لهم مع الإنفاقات التي حدثت ومراجعة الأموال غير منفقة، وحفظ السجلات حسب السنة المالية. وعلاوة على ذلك، كانت ميزانيتها مكتوبة و تضم جميع الدخول وجميع النفقات للسنة المالية. ونتيجة لذلك، اعتبروا الميزانية من أهم الوثائق السياسية لدى الحكومة. وتم تفعيل الرقابة والتحكم على الإنفاقات عبر تسجيل الإنفاقات التي تتم من قبل الإدارات المختلفة ، وتحديد تلك التي تجاوزت المعدل المخصص لها.
كما شملت الميزانية الفرنسية على خطوات تعرف اليوم بالخطوات التحليلية. على سبيل المثال، لحساب المبلغ المخصص للجنود، تنظر الميزانية لعدد الجنود خلال العام، و خصم عدد الجنود المتوقع أن يكون مريضا أو غائبا،و للحصول علي القيمة، تضرب هذه القيمة بمخصص كل جندي للحصول علي مجموع التمويل اللازم .
تفتخر فرنسا على بكونها قادرة على العمل فورا في حالة الطوارئ لأنه تم تحديد الاموال والرقابة عليها وعلاوة على ذلك، أدرك المسؤولون الفرنسيون بأن كانت لديهم آليات لوضع وتنفيذ السياسة العامة على صعيد علي من الدقة . ولعل بعض التعبيرات المعاصرة لهذا التعبير ما قاله ، كازيمير بيرييه، "ما هي إلا أشياء عظيمة تتم. بالمال بالإضافة إلى مقولة البارون لويس، "اجعل لي تمويل جيد، وسوف أقوم بسياسة جيدة. المالية الجيدة هي مساعد قوي للسياسة جيدة ".
في المقابل كانت الميزانية الانجليزية ينقصها الكثير من الخواص التقنية التي كانت عند الفرنسيون. على سبيل المثال، على الرغم من أن معظم الأموال تم تخصيصها الآن من قبل البرلمان، لم تكن هناك وثيقة واحدة تعكس جميع النفقات الحكومية، لا مجال للمقارنة بين الاعتمادات والنفقات الفعلية، و كانت الاعتمادات مبلغ مقطوع استخدمت على نطاق واسع ، واستخدمت أساليب محاسبية مختلفة من قبل الإدارات المختلفة - وداخل الإدارات كانت مبالغ كبيرة غير مبررة ومجهولة المصير، لم يحتفظ بسجلات على أساس السنة المالية، وكان الفائض يتوالى في السنة المالية القادمة. وعلاوة على ذلك،نتجت ديون كثيرة لدى انجلترا بسبب توسع إمبراطورية انجلترا و الأنشطة المتعلقة بالجيش.
خلال منتصف القرن التاسع عشر أصبح الحزب اللبرليلي أهم حزب في النهاية استولي علي السلطة وقد واجه رئيس الوزراء وليام جلادستون الكثير من الديون و الانفقات كثيرة بسبب إمبراطورية انجلترا و إنشاء الجيش،و قرر تخفيض الضرائب علي الشركات و الاهتمام بالأنشطة المحلية ، مثل البنية التحتية، وتوسيع نطاق التعليم العام. ظن رئيس الوزراء و غيره من المسؤلين إن خطوات الميزانية الفرنسية طريقة جيدة للرقابة على "مال الانجليز". في عام 1861إنجلترا. أنشئت لجنة الحسابات العامة في البرلمان و في عام 1866 أنشئت مكاتب المراقب المالي والمراجع العام. خلال الثلث الأخير للقرن وضع جلادستون سلسلة من الإصلاحات التي حلت محل الممارسات الانتهازية في الماضي. حيث أكد جلادستون على مفهوم التوازن. أصبح هذا المبدأ احد أهم الميزات التقنية في الميزانية و أخلاقيات الإدارة الحكومية و إذا جمعت مع مفاهيم الكفاءة و تقدير كانت مناسبة للعصر الاصطناعي.
في هذا الجزء شهدنا كيف خطى الانكليز والفرنسيون خطواتهم الأولى في كتابة الميزانية والرقابة على الاموال العامة أما الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية كان الوضع مختلفا كما هو الحال في بلداننا العربية كل ذلك سنراه في الجزء الثاني من هذا المقال إن شاء الله
ترجمة : أحمد المفعلاني
تعليقات
إرسال تعليق